سوريا… أولوية تحصين الداخل سياسيًا وأمنيًا

كتب منير الربيع في “المدن”:

ارتاحت سوريا من حكم آل الأسد. ارتاحت بعد أكثر من خمسين عاماً من القبضة الحديدية، ومن ملاعبة النظام للسوريين، الفلسطينيين، اللبنانيين، العراقيين ودول كثيرة في المنطقة. لم يكن ما جرى بسقوط نظام بشار الأسد متوقعاً. لذلك يمكن للمفاجأة أن تطول، ويمكن للناس أن تطيل الفرح. ارتاحت سوريا من ظلم آل الأسد، بما فيهم الموالون والمعارضون. لكنها إلى جانب الارتياح، تبقى قلقة. قلقة على المستقبل، واليوم التالي، والكثير من التداخلات أو التقاطعات ما بين الداخل والخارج. خصوصاً في ظل عدم توفر برنامج واضح المعالم لمسار المرحلة الانتقالية، وما يرسم معالم الدولة الجديدة. فالمجتمع السوري في غاية التعقيد والتنوع، لا يمكن لأي طرف أن يختزله لوحده، إلا بناء على قبضة عسكرية وأمنية واستخبارية كما فعل “بعث- الأسد”، وهو ما لا يمكن للسوريين القبول به بعد كل الخسائر، التضحيات، الظلم، وبعد كل الفرح والاحتفاء بسقوط النظام.

عقد اجتماعي جديد
من خارج الخلفية الدينية أو الطائفية، هناك شرائح اجتماعية وسياسية قلقة على المستقبل السياسي، بما يرتبط بالدولة المدنية، الديمقراطية، المتعددة. تتعهد الإدارة السياسية الجديدة بالعمل على إبرام عقد اجتماعي جديد، وتسعى إلى حلّ الفصائل العسكرية ودمجها في جيش وطني. وهذا يحتاج إلى تضافر جهود سياسية، اجتماعية، أمنية، بين مختلف مكونات المجتمع السوري. إذ لا يمكن لطرف واحد أن يتولى المهمة، ولا يمكنه السيطرة على القرار والمسار، فحتى حافظ الأسد وفي عزّ قوته وقبضته الأمنية، لم يتمكن من الإمساك بسوريا والسيطرة عليها إلا بعد سنوات طويلة مارس فيها كل فنون القمع والتعذيب وعمليات القتل. ومنذ العام 1970 إلى لحظة وفاته بقيت سوريا تتعرض لاهتزازات. اليوم حتماً لا أحد من السوريين يريد العودة إلى مثل تلك التجارب، وفوق الاحتفال بسقوط النظام، تبقى أولويات السوريين في الذهاب إلى الانتخابات وصناديق الاقتراع، وفتح الباب أمام تشكيل الأحزاب السياسية، وانتظام الحياة الدستورية.

لم يعد بالإمكان الاكتفاء بمشاهد ومظاهر الاحتفال، ولا مجال في البقاء عند لحظة “التفاجؤ” بسقوط النظام، بل ما هو ملّح تقديم تصور سياسي ودستوري شامل، يتم العمل عليه من قبل مختلف شرائح المجتمع السوري، بناء على أهل الكفاءة والاختصاص. وذلك لوضع رؤية دستورية وسياسية تحفظ حقوق كل السوريين الذين أرادوا الحرية، ويريدون الممارسة السياسية، إما من خلال الانخراط بالأحزاب، أو من خلال المشاركة في الانتخابات.

شكل الدولة والتحديات
تعيش سوريا هذه الأيام حالة لا دستورية بفعل تعليق الدستور، وعدم إقرار العمل بأحد الدساتير القديمة التي كانت معتمدة في الخمسينيات، فيما تتركز الأسئلة حول الهوية الدستورية التي ستنتج مستقبلاً، ومن هي الجهات التي ستكون مخولة بوضع الدستور الجديد، وكيف سيتم اعتماده، باستفتاء شعبي، أم بموافقة مجاميع سياسية، روحية، وممثلين عن شرائح مختلفة، ومن الذي يختار هؤلاء ويحددهم. كيف سيكون شكل الدولة السورية، هل دولة مركزية موحدة، أم دولة واحدة مع لامركزية إدارية واسعة، أم لامركزية إدارية ومالية واسعة. كل هذه العناوين تشكل التحدي الأبرز لسوريا المستقبل، ولما يفترض أن تقوم به ليس الإدارة الجديدة وحدها، بل مع كل المكونات والفصائل والاتجاهات والأطياف. ويمكن الاستفادة أيضاً من مقومات ومرتكزات الدولة وأجهزتها، لا العمل على إقصائها أو هدم ما كان قائماً، بل يمكن المراكمة عليه، للحفاظ على ما تبقى من هياكل للدولة أو للمؤسسات.

لا يمكن إغفال الحجم الكبير للتحديات مع مكونات مختلفة، أبرزها مع أبناء الطائفة العلوية. فهناك قنوات اتصال مفتوحة، وفي الوقت نفسه هناك أصوات مرتفعة داخل الطائفة تطالب بالضمانات والحقوق. هنا المسألة في غاية التعقيد، لا سيما أن طائفة كان لديها وضعها المتقدم طوال خمسين عاماً، ستجد نفسها خاسرة إلى حدود بعيدة، ولن يكون سهلاً بالنسبة لها ولمجتمعها أن تتقبل الخسارة. وهذا يخلق تحدياً كبيراً، ويبقي النار تحت الرماد في حال عدم معالجة المسألة بناء على الانتماء الوطني التشاركي، وحفظ الدور وحماية الوجود بموجب القانون والدستور، في مقابل أيضاً اعتماد قاعدة محاسبة المتورطين بجرائم القتل والتعذيب والفساد.

التحدي ذاته ينطبق على العلاقة مع الكرد، والدروز وغيرهم. ولكن ما هو أهم من “حقوق الطوائف” والمكونات المختلفة أو الأقليات، هناك مسألة ذات أهمية مختلفة، تتصل بمعرفة حساسيات المجتمع السوري ككل، بما في ذلك “الأكثرية”، والمقصود بهم المنتمين إلى الطائفة السنية. فهؤلاء باختلاف توزعهم الجغرافي أو المناطقي تختلف طبائعهم وعاداتهم، فمنهم من هو محافظ، ومنهم الأكثر انفتاحاً، ومنهم العلماني أو ذات التوجهات المدنية أو اليسارية حتى، وهم من طبقات اجتماعية مختلفة، فمنهم التجار والأثرياء، ومنهم الموظفون الحكوميون، ومنهم ذات الحالة الاقتصادية أو الاجتماعية المعدومة.

إعادة الإعمار
سوريا من الدول المعقدة اجتماعياً، ثقافياً، دينياً، وتوفير الاستقرار العادل فيها هو مهمة صعبة لا تتحقق إلا بمشاركة الجميع، وبتحميل مسؤوليتها للجميع على مستوى القرار أو على مستوى تصويت الناس لاختيار أصحاب القرار. وما هو أصعب أيضاً بعد كل سنوات الحرب، الحاجة السورية الضرورية والماسة لمشاريع إعادة إعمار، ما يفرض الإسراع في توفير المنجز السياسي أو الدستوري ليتم العمل على تكليف أهل الاختصاص وتشكيل المجالس المعنية في وضع رؤى شاملة لإعادة الإعمار، ووفق أي نموذج اقتصادي واجتماعي، ووضع الأسس التي على أساسها ستشارك القوى الخارجية في هذه العملية.

إلى جانب تحديات حلّ الفصائل العسكرية وبناء جيش، هناك تحديات كبرى تتصل بالأمن الداخلي، وبكيفية ضبطه، وبآلية تشكيل أجهزة الشرطة والقوى الأمنية الداخلية. لأنه من دون ذلك لا يمكن ضبط الأوضاع، بدءاً من المعابر الحدودية. إذ لا يزال الداخل إلى سوريا من لبنان لا يمرّ على أي حاجز تفتيش، ولا يتم ختم جواز سفره، حتى مشاهد عناصر الشرطة ورجال الأمن وتسيير المرور تغيب عن مختلف الساحات والشوارع. تحدّ أمني آخر كان واضحاً لدى الدخول إلى القصر الجمهوري، إذ لم يكن هناك إجراءات أمنية، علماً أن وفوداً تتقاطر إلى القصر وتدخل بناء على إجراءات روتينية بسيطة ليس فيها أي إجراءات تفتيشية. هذه بحدّ ذاتها تشكل خطراً على قائد الإدارة السياسية الجديد أحمد الشرع نفسه.

العقيدة السياسية
سياسياً، تحتاج سوريا إلى إعادة صياغة وتحديد سياستها الخارجية، فمثلاً خلال ثلاثة أشهر يفترض أن تعقد القمة العربية السنوية فما هو موقف سوريا في هذه القمة العربية، وماذا بشأن القضية الفلسطينية، والموقف من إسرائيل التي تعتدي على كل دول المنطقة في محاولة لإعادة فرض وقائع جديدة. ماذا عن العلاقات مع الدول العربية ذات الاتجاهات المختلفة، وهل سوريا ستكون إلى جانب طرف مقابل طرف آخر، وستعود إلى سياسة المحاور أم ستعتمد مبدأ الحياد.

من الواضح أن هناك انطلاقاً وتركيزاً على المسارعة الدولية والديبلوماسية إلى سوريا، وهو ما يُنظر إليه بوصفه احتضاناً دولياً للواقع السياسي السوري الجديد. وهذا له شروطه وفروضه والتنازلات التي يستدرجها. لكن الدعم الدولي والاستقواء بالخارج في سبيل تثبيت الوضع في الداخل، هو أمر لا يمكن أن ينجح، إلا بتحصين الساحة الداخلية وسدّ كل المنافذ التي يمكنها أن تسرّب عواصف كثيرة. وأي رهان على الدعم الخارجي لتثبيت الواقع في الداخل، سيكون تكراراً لما حاول أن يقوم به حافظ الأسد ونجله بشار.

لسوريا تحديات كثيرة مع دول الجوار أيضاً. فلبنان قلق ومقلق، خصوصاً في ظل كل الظروف المتغيرة في المنطقة. قلق بسبب عدم وجود إجابات كثيرة لتطورات وضع سوريا وآليات العلاقة بين سوريا والعرب. ومقلق بسبب وجود عشرات الضباط المحسوبين على النظام السوري وموجودون على الساحة اللبنانية، وكيف سيتم التعامل معهم. قلق أيضاً من وضع اللجوء السوري وكيفية العمل على إعادة اللاجئين. ومقلق لأن هناك فريقاً أساسياً لا يزال ضد التحول الذي حصل في سوريا. وفي حال توفرت مقومات إقليمية تمتد من إيران إلى العراق فلبنان، فحينها يمكن أن يكون منطلقاً لاهتزاز أمن سوريا. عدا عن ذلك أيضاً، فالحدود غير المضبوطة بين البلدين وعمليات الترهيب، يمكنها أن تشكل عنصر اختراق وتهديداً للداخل السوري كما للداخل اللبناني.

العراق والأردن وإسرائيل
العراق، أيضاً يقع بين السطوة الأميركية والنفوذ الإيراني، وهناك مساحات شاسعة من الحدود المشتركة والتي كان طريقها مفتوحة لمقاتلين عراقيين ومن جنسيات مختلفة باتجاه سوريا لمساندة النظام. هذا الطريق قد قطع، إلى جانب شعور شيعي بمحاولة لتقليص النفوذ الشيعي في المنطقة، والذي لاقاه حكم سني في سوريا، فيمكن للعراق أن يبقى مصدر قلق لسوريا في حال عدم وضع سياسة خارجية واضحة تحسّن العلاقات البينية.

ثمة قلق أردني واضح، بسبب تداعيات القضية الفلسطينية، وانعكاس ما جرى في سوريا من خلال انتصار الثورة ذات الطابع الاسلامي. ما يجعل الأردن في حالة قلق دائم، وفيه أزمات اقتصادية واجتماعية. وهناك جهات كثيرة تحاول استغلالها لخلق تحديات جديدة على سوريا، وهنا لا يمكن إغفال العنصر الإسرائيلي الذي يمكنه أن يتدخل أمنياً أو عسكرياً أو استخبارياً، وزيادة منسوب القلاقل ما بين الأردن وسوريا، وفي ذهنيته السعي إلى قضم الضفة الغربية أكثر فأكثر.

إسرائيل تسعى دوماً إلى إضعاف سوريا، وتريد مواصلة عملياتها واستهدافاتها. وتريد أن تبقى على عربدتها من دون اعتراض من أحد. وستزداد طلباتها وأطماعها، وفي لحظة المواجهة والصدام معها، ستحاول أن تفرض واقعاً جديداً في الداخل، من خلال تغذية الصراعات المذهبية أو بين الأقلية والأكثرية. وستعمل إسرائيل على استغلال تقدمها في الجنوب السوري، لبنانياً، من خلال فرض ضغوط للتخلي اللبناني عن مزارع شبعا، وتقديم صورة أن “الجولاني” لا يريد الجولان، فلماذا بعض اللبنانيين يريدون مواصلة القتال.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى