هل يتلمّس لبنان الفرصة الأخيرة بعد تغيّر المشهد؟

كتب زياد سامي عيتاني في اللواء:
في 26 كانون الأول الماضي، زار العماد جوزاف عون السعودية، بصفته قائداً للجيش اللبناني، حيث إلتقى وزير الدفاع السعودي الأمير خالد بن سلمان، وجرى استعراض «العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين في المجال العسكري، والبحث في مستجدات الأوضاع في لبنان، والجهود المبذولة بشأنها» (وفق ما كتب الأمير خالد بن سلمان في حسابه على منصة «إكس»). وقتها وإن كان ظاهر الزيارة دعم الجيش وملف العدوان الإسرائيلي على لبنان، إلّا أنه فعلياً كان بمثابة بداية تظهير شخص قائد الجيش «كرئيساً للجمهورية». وجاء إتصال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان في 11 كانون الثاني، بالرئيس عون لتهنئته بإنتخابه رئيساً للجمهورية، ومقدّماً له الدعوة لزيارة المملكة، في لفتة دعم «إستثنائية»، تأكيداً على الدور والمسعى السعودي في إيصاله الى قصر بعبدا، بعد مختص عسير لملء الشغور الرئاسي «القاتل» الذي إمتد لحوالي السنتين.
فما بين زيارة عون كقائد للجيش للرياض وزيارته لها كرئيس للجمهورية (بتعويم وزخم عربي ودولي)، وبينهما مكالمة الأمير محمد، تغيّر المشهد بأكمله على الصعيدين السعودي واللبناني. فالسعودية التي وصفها عون بأنها أصبحت «إطلالة للمنطقة وللعالم كله ومنصة للسلام العالمي»، رتبت لقاء أميركياً – روسياً على أرضها (قد يؤسس للقاء قمة بين الرئيسين فلاديمير بوتين ودونالد ترامب، من شأنه أن ينهي حرب أوكرانيا)،
وقبل ذلك شهدت قمة مصغّرة بحثت في خطط أميركا لمستقبل قطاع غزة، قبيل القمة العربية المرتقبة لنفس الموضوع. وهذا يعني أن المملكة باتت تتحرك إقليمياً ودولياً وفقاً لرؤيتها المتقدمة ولمصالحها «الجيو إستراتيجية». أما بالنسبة للبنان، فإنه بات هنالك رؤساء في السلطات الثلاث، وأن العملية السياسية صار بإمكانها أن تدور عجلتها بطريقة دستورية أكثر سرعة وسلاسة، وخصوصاً بعد تشكيل حكومة جديدة ونيلها الثقة، ما سيشكّل مؤشراً على مدى قدرة اللبنانيين على إدارة شؤون الدولة بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة، والمتغيّرات الكبيرة التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط، خصوصاً في سوريا والأراضي الفلسطينية المحتلة، من دون إغفال للتبدّلات التي طالت موازين القوى الإقليمية، وتراجع الدور الذي كانت تمارسه إيران عبر «محور المقاومة»، وانهيار نظام الرئيس السوري السابق بشار الأسد، ما يعني خروج دمشق نهائياً من «المحور»، وبالتالي فقدان حزب الله لخطوط الإمداد عبر الأراضي السورية. كذلك أمام لبنان تحديات وإستحقاقات عدة، من أبرزها وأهمها حماية الحدود، ووقف الانتهاكات الإسرائيلية، وعودة النازحين إلى قراهم ومنازلهم، وإعادة الإعمار، وحفظ كيان الدولة من الانهيار وبناء مؤسساتها، وترسيخ مبدأ سيادة القانون، ومنع الفساد والمحاصصة السياسية والطائفية، إضافة لحصر السلاح بيد الدولة، وبناء استراتيجية دفاعية وطنية، من دون إغفال للملف الاقتصادي المرتبط بأموال المودعين، وجذب الاستثمارات الخارجية من أجل الدفع نحو خلق فرص عمل جديدة واقتصاد حديث متنوع، بعدما دمر وإنهارت معه المالية العامة للدولة منذ تشرين الأول 2019. قد تكون الرياض الآن أكثر استعداداً للمساهمة بسخاء في تعافي لبنان سواء من الحرب أو من الأزمة الاقتصادية، إلّا أنها سبق وأوضحت بشكل واضح وصريح أنها ستقدم مساعدات مالية كبيرة فقط إذا رأت تقدّماً ملموساً في الإصلاحات الداخلية.
ما بين زياتي العماد جوزاف عون «كقائد للجيش» و«كرئيس للجمهورية»، فإن السعودية تدعم العملية السياسية في لبنان، بما يضمن وحدة أراضيه وأمنه واستقراره، كي يخرج لبنان من صراعات المحاور الإقليمية، لأن هذه الصراعات دفع لبنان ولعقود متتالية ثمناً باهظاً لها من أمنه وتنميته ومستقبل شعبه.
وهنا يجب أن لا نسقط من حساباتنا كيف عملت الدبلوماسية السعودية طوال فترة الحرب الإسرائيلية الأخيرة على لبنان، من خلال علاقاتها الدولية على إدانة العدوان الإسرائيلي، والضغط من أجل وقف لإطلاق النار يكون مستداماً، وهي ما زالت ناشطة على أعلى المستويات لوقف الخروقات الإسرائيلية وأن يطوي لبنان هذه الصفحة، ويبدأ بالتعافي على الصعد كافة. السعودية تعتبر أن لبنان يستحق أن يمنح فرصة جديدة، مع إدراكها أن المهمة ثقيلة على كاهل الرئيسين جوزاف عون ونواف سلام، خاصة أنهما آتيان من خارج الطبقة السياسية التقليدية، وستكون أمامهما تحدّيات داخلية وخارجية كثيرة، إلّا أن هنالك دعماً شعبياً ومزاجاً عاماً بدعم توجهاتهما الإصلاحية، لكن في نفس الوقت فإن الرياض تراقب عن كثب مدى التقدم الذي من المنتظر تحقيقه لجهة إدارة السياسات القائمة على الحوكمة والنزاهة، وسيادة القانون، وحصرية السلاح، حينها ستجد بيروت عوناً كبيراً من الدول الداعمة، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، حتى يتمكن لبنان من التعافي تدريجياً من كل أزماته المزمنة. لبنان أمام فرصة تاريخية لبناء دولة حديثة، من خلال أن يكون العهد الجديد مرحلة للتغيير الحقيقي، فهل يتلمّس هذه الفرصة التي قد تكون الأخيرة؟